بقلم: سامي يعقوب

حدث في فجر أول أيام العام الجديد أنه كان في طريقه إلى اجتماع للصلاة بالكنيسة، وفوجىء بحادث سير مروع عند أحد مخارج كوبري 6 أكتوبر.. سيارة فاخرة تحمل خمسة من الشباب في عمر الزهور سقطت منذ ثوان من المستوى الأعلى للكوبري. لم يتردد لحظة أن يوقف سيارته، ويلتقط بسرعة «طفاية» الحريق، ويسرع ليطفئ السيارة المدخنة قبل أن تحترق، ويقود بشجاعة غير مسبوقة عملية الإنقاذ .

بالطبع تجمّع أهل الخير بسرعة، وازدحم الكوبري بالكثيرين الذين عادة، بالرغم من شهامتهم، يُزيدون حالة الضحايا سوءًا بسبب افتقارنا كشعب إلى ثقافة الإنقاذ. والغريب أن التكبير في أذن الضحايا، أو استنطاقهم للشهادتين كان هو الهم الذي شغل البعض أكثر من اهتمامهم بإنقاذ الضحايا، بإتاحة الفرصة للفهد الذي راح يصرخ فيهم حتى فقد صوته: "لا تحركوا المصابين، فأنا طبيب وأعرف ما أعمله." ولم يجد صراخه تجاوبًا إلا بعد أن أقنع مجموعة من الفاهمين أن يشكلوا حول الضحايا دائرة تمنع تدخل المخلصين الذين أرادوا المساعدة عن غير معرفة. واتصل الفهد بالإسعاف، الذي جاء على غير عجل، وحمل ضحية كانت قد ماتت في الحال، بينما حملت سيارة خاصة ضحية أخرى.. أما هو فبقي مع الضحايا الثلاث الأخرى، والتي كانت إحداهن قد أصيبت بإصابة خطيرة في رأسها، وعلى ركبتيه ظل راكعًا لساعة أو أكثر ليحتفظ برأسها في وضع يمكنها من الاستمرار في التنفس، حتى جاءت نفس سيارة الإسعاف مرة أخرى لتحملها إلى المستشفى مع زميلتيها المصابتين أيضًا، وذهب هو وراءهم بسيارته حتى المستشفى. ولما تأكد من تلقيهن الرعاية الكافية عاد ليواصل طريقه للصلاة في الكنيسة؛ فلحق الصلاة من السابعة حتى الثامنة في صباح يوم ١يناير ٢٠١٢. وعاد الفهد في اليوم التالي ليعضد الأسرة والأصدقاء الذين استجابوا لطلبه أن يصلي معهم كمسيحي. ومع أنه لا يذكر الكلمات التي خرجت من فمه آنذاك، إلا أنه لايزال يذكر أن الذين تجمعوا حوله كانوا يهمهمون: "آمين.. آمين !"

بينما كنت أستمع له وهو يحكي لي بدموع التأثر هذا الاختبار القاسي، لم أكن أعرف من أين أتى بمثل هذه القوة والشجاعة لكي يدير وحده حدثا كارثيا بمثل هذا الحجم.. بكيت معه حزنًا لضياع حياة أولئك الشباب، ثم اتفقنا أن قرار الحياة والموت إلهي، أما المبادرة في مثل هذه المواقف فهي اختيار بشري. لكن هذا الاختيار لم يأت من فراغ؛ فقد اندهشت عندما عرفت أن الفهد كان صائما انقطاعيا لمدة الأربعين يوما الأخيرة من العام الماضي، عاش فيها على السوائل فقط، وهو يصلي طالبا أن يقود الله حياته لكي يصنع فرقا في حياة الآخرين لمجد المسيح. لم أستطع أن أعلق بكلمة واحدة، وتركته وأنا أفكر أن الله كان يعده خلال أيام تكريسه للقيام بهذه المهمة. ولما تقابلت مع والديه قالا لي ما أدهشني أكثر.. فبالرغم من أن ابنهما شخص ناجح في حياته العملية، إلا أن صلاتهما له منذ كان في بطن أمه، وحتى اليوم، لم تكن من أجل نجاحه العملي هذا، بل أن يعطيه الله ضعف روح إيليا !

في أيام انشغل فيها الكثيرون من شركاء الوطن بالجدل حول السؤال: "هل يجوز تهنئة المسيحيين بأعيادهم أم لا؟" تحرك هذا الشاب بمحبة تلقائية، ونزل من سيارته، وانحنى إلى الأرض، ومد يده وسط الدم والأشلاء؛ لينقذ مصابا لم يفكر لحظة في دينه أو معتقده.. فالدين بالنسبة له في تلك اللحظة لم يكن في إكمال طريقه إلى حيث كان ذاهبا ليصلي، بل في أن يضع نفسه من أجل الآخر.. ولم توقفه الفتاوى المحرضة على الكراهية، كما لم تمنعه ظلمة الفريسية من أن يكون كالسامري الصالح. والمقارنة بين صخب الفتاوى وموقف السامري جاءت بكلمات الرسول يعقوب تتردد مجددا في داخلي: "أرني كيف يكون إيمانك من غير أعمال، وأنا أريك إيماني بأعمالي." (يعقوب ٢: ١٨- بتصرف) ولعلي أعرف أن حديث الرسول يعقوب عن هذا الأمر قد شغلنا كثيرا بالجدل عما إذا كان يقصد أن الخلاص بالأعمال أم بالإيمان، أو بكليهما معا. لكني قرأت النص من منظور ما نعايشه في هذه الأيام من ضجيج الأحاديث عن الكفر والإيمان، وخرجت من دائرة الفكر الضيقة هذه لأناقش مع أسرتي: ماذا يمكننا أن نفعل لنعلن عن إيماننا للآخرين بأعمالنا؟ وما تأثير هذا على مستقبل وجودنا في هذا الوطن الذي نعشق كل ذرة من ترابه؟ وكيف يمكن لحياتنا اليومية أن تصنع فرقا حيثما وجدنا؟

جاء أحد علماء الشريعة بسؤال أراد أن يحرج به رب المجد يسوع، وقال: "من هو قريبي؟" فأجابه بقصة يمكن لتطبيقاتها المعاصرة أن ترشد أبناءنا كيف يعيشون أيامهم المقبلة: "مسافر وقع على جانب الطريق بعد تعرضه لحادث مفزع غير متوقع، وبينما كان يصارع الموت مغشيا عليه، عبر في الطريق متدينان الواحد بعد الآخر، فنظرا إليه ربما بتأثر أو بغير مبالاة، ثم أكملا سيرهما إلى حيث كانا ذاهبين. لكن مسافرًا لم يكن من جنس الضحية كان عابرا في الطريق، فلما رآه أشفق عليه، ونزل من سيارته، وضمد جراحه، ثم حمله في عربة إسعاف -جاءت متأخرة- وذهب به إلى المستشفى، وهناك اعتنى بأمره، ووعد بأن يعود إليه في اليوم التالي." وبينما كان يفعل هذا لم ير في اختلاف الدين أو كراهية أهل الفتوى المزعجين ما يمنعه من أن يصلي مع أهل المصاب، فشهد عن إيمانه بأعماله.. أدعوكم للرجوع إلى النص الأصلي للقصة في إنجيل لوقا أصحاح ١٠ الأعداد ٢٥ إلى ٣٧ .    


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٩ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٢)
 

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved