Submit to FacebookSubmit to Google PlusSubmit to TwitterSubmit to LinkedIn

بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عندما يختار الأبناء ١           عندما يختار الأبناء ٢

عندما يختار الأبناء ٣           عندما يختار الأبناء ٤


أن تكون أبًا مسؤولاً، أو أمًا مؤثرة هذا ليس أمرًا سهلاً.. فمنذ لحظة دخول الأبناء إلى هذا العالم،وحتى يأتي الوقت الذي يخطون فيه للأمام خطوتين واسعتين ليستقلوا بحياتهم بعيدًا عن دائرة تأثيرنا المباشر.. فنحن مسؤولون أن نعلِّمهم فنون الحياة، وندربهم كل يوم كيف يختارون بحكمة أي طريق يسلكون

 مسؤوليتنا أن نقف بجانبهم لندعمهم عندما تواجههم الصعاب، ونرشدهم ليتعاملوا مع التحديات، ويعرفوا كيف يتغلبون على المشاكل، ويتجنبون المخاطر.. كل هذه المهام الأبوية التي تشكل حياة أبنائنا تُثقل إحدى كفتي ميزان التربية، ويقابلها على الكفة الأخرى ثقل ما يمكن أن نعلِّمه لهم بنموذج حياتنا الشخصية.

 

لقد كبرت مع أب كان مقتصدًا في كلامه، لكن الكيفية التي عاش بها أيامه بثبات نادر علمتني الكثير مما يُثري حياتي حتى اليوم. فقد اعتدت أن أصحو من نومي فأجده مستغرقًا مع كتابه المقدس، ولم أعرفه يخجل من أن يُصلي منفردًا بصوت مسموع. وها الأيام قد مضت بسرعة، وقد صرت أبًا يفرح مجددًا في كل مرة كان يتسلل فيها ابناه بهدوء من فراشهما ليلتصقا بحضن أمهما، لينصتا إلينا ونحن نصلي معًا. ولأن هذا اللقاء اليومي المبكر مع إلهنا أصبح تقليدًا أسريًا في بيتنا، أشعر بفرح من نوع خاص عندما أسمع أيًا منهما يشاركنا الصلاة بصوت أجش مخاطبًا الله بصدق وحرارة، وبمفردات لغوية غير معتادة.. صحيح أن ميراث الآباء يلد نفسه من جديد في الأحفاد!

 

على أية حال، بقدر اقتناعي بأن مسؤولية ولادة وتنشئة أبناء هي أروع ما يمكن أن يختبره الواحد منا في أيام عمره، إلا أنها تكون أحيانًا مصدر وجع يقارن بألم الأسنان، أو بالمغص الكلوي المفاجئ! فمثلما يُسر الابن الحكيم أباه، الابن العنيد يُحزن قلبه! والألم الذي أتحدث عنه هنا لا علاقة له بسهر الليالي، أو الجهد المُضني لتوفير أفضل معيشة يومية، وفرص للتعليم الراقي. كما لا يُقصد به القلب الذي ارتجف عند باب غرفة الطبيب الذي كان يُخيط بعض الغرز في فروة رأس جُرحت في المدرسة، أو يلف ضمادة جبسيّة حول ذراع أُصيب في مباراة لكرة القدم.

 

لا.. الألم الحقيقي يُختبر عندما يكبر الأبناء، وبعناد يرفضون أن تكون حكمة والديهما منصة لانطلاقهم إلى مستقبل أفضل. ولأن الإحباط في أحد معانيه ينتج عن اصطدام التوقعات بالواقع.. فنحن لا نستطيع أن نتجنبه عندما يخترقنا كسهم سؤال ابن أو ابنة: «هل رأيك ملزم أم استشاري؟» يا للهول! مشورة «بابا» أصبحت في هذه الأيام محصورة بين خياري «الإلزام» أو «الاختيار» تأثرًا بروح «ميدان التحرير»!

 

لعل آخر اختيار للوالدين لا يقاومه الأبناء هو المدرسة التي يختارونها لهم بحسب ما يرونه الأفضل من وجهة نظرهم.. وأيًا كان اختيارنا فالسؤال التقليدي بعد أول يوم دراسة في حياة الأبناء: «هل أعجبتك المدرسة؟» ومن هذا الوقت يبدأ حوار لا ينتهي حول سلسلة اختيارات أعمق جدًا من مجرد الدخول معهم في نقاش عن فوائد أكل «السبانخ»، أو إقناعهم بأن ما يصرون على أن يلبسوه قد ضاق عليهم لأن أجسامهم قد كبرت.. وهكذا يتطور الحوار حول الاختيارات نوعًا وأسلوبًا مع تقدمهم في السن!!

 

كوالدين لا يمكننا تجاهل حقيقة أن اختيارات أبنائنا  ترتبط بميولهم الشخصية، وقدراتهم ومواهبهم التي تتفجر فيهم بتلقائية، وأن أساليب التعليم الحديثة، والتأثير الهائل للميديا التي تُحيط بهم من كل جانب قد عمقت الفجوة الفكرية بينهم وبين جيل الآباء والأمهات.. لذلك ليس من الحكمة أن نتوقع من أبنائنا أن يصنعوا اختياراتهم بنفس الأسلوب الذي اتبعناه نحن عندما كنا في مثل أعمارهم!

لكن هل يعني هذا أن نستسلم وننسحب أمام قدراتهم المدهشة على تعليل ما اختاروه لمستقبلهم؟ أو نسكت عندما يتناقض اختيارهم مع ما نراه كوالدين بعين الخبرة أنه ليس الأفضل لهم؟ ومَنْ منا يقبل أن يكون لأبنائه مجرد مصدر للتمويل المادي أو الدعم الاجتماعي فقط، بينما يرفضونه كمرشد لاختياراتهم؟

 

إن مشورة الوالدين لا يمكن أن تُقاس بفلسفة «الإلزامي» و«الاختياري»؛ لأنها تأتي من الذي على استعداد أن يُعطي حتى من أيام عمره ليجعل الآخر يعيش عمرًا أطول وأيامًا أسعد.. فأيًا كان مستوى تعليمك أو خبرتك مقارنة بما حققه أبناؤك من إنجاز بتنشئتك لهم، لا تقلل من شأن ما علمتك إياه الحياة.. فكل أب وأم يمكنهما ببصيرة نافذة أن يريا أبعد جدًا مما يراه أبناء ينظرون تحت أرجلهم بالرغم من سمو الدرجات العلمية التى ربما يكونون من الحائزين عليها!

 

لا تسمح لاتهام بأنك غير فاهم لدوافع إصرارهم على اختيار ترى أنه يهدد مستقبلهم أن يُثنيك عن عزمك أن تشاركهم برأيك. وحتى إذا جرحتك صراحتهم أو صدمك أسلوبهم، فاحتمل ولا تسكت أبدًا؛ حتى لا تخسر معركتك الأخيرة؛ لتضمن لهم، بنعمة الله، مستقبلاً يملأه النجاح والاستقرار. وبعد أن تقوم بدورك، دون أن تضغط أو تغلق في وجوههم بغضب باب التواصل، ما عليك إلا أن تستودعهم فى يدي القدير، وترفع يديك عن الأمر، وتنتظر خلاص الرب.. هكذا تكون أبًا مسؤولاً وتكونين أمًا مؤثرة!

 

إذا كنت ابنًا أو ابنة وصادفك هذا الحديث فقرأته، دعني أشجعك بما أظنه حقًا لك عند والديك.. من قلب أب أُعطي امتياز أن يربي ابنين أقول لكل ابن وابنة: إنني أتفهم رغبتك في صنع قرارات حياتك وحدك، وأقدر رغبتك في أن تستقل بنفسك خارج ما قد تشعر أنه ضغوط تتمنى أن تُعفى منها.. فمن حقك أن تختار لمستقبلك ما تريد، ومن حقك أيضًا أن تعرف أنني أثق في قدرتك على صنع الاختيار الذي ترى أنه سيحقق الأهداف التي وضعتها لحياتك. لكن.. لكن، إذا حدث وتعارض ما قررت أن تختاره لمستقبلك مع حكمة ورأي والديك فتوقف للحظات لتفكر فيما أوصى به حكيم الزمان الملك سليمان أبناءه. وقد جئت لك بتفسير معاني كلماته كما قصد أن يقولها في اللغة التي كُتبت بها:

 

«يا ابني.. لا تحتقر مشورة أبيك، ولا تُدر ظهرك لنصيحة أمك؛ لأن كلامهما مثل تاج نعمة ثمين فوق رأسك، وقلادة بركة رفيعة المستوى يمكن أن تُحيط بعنقك إلى مدى الأيام!»

«وأنتِ أيضًا يا ابنتي.. استمعي لنصيحة أبيك، ولا تهملي أبدًا ما تعلِّمه لكِ أمكِ، لأن كلماتهما إليكِ مثل أزهار من نوع نادر تُجمل ضفائر شعرك، ومثل عقد من أحجار كريمة يُحيط بعنقك، ويتدلى على صدرك بجوار قلبك!» (أمثال ١: ٨  و٩).

 

هذا هو حديثي اليوم لكل ابن وابنة.. أما إذا كنت أبًا أو أمًا، وصادفتك هذه الكلمات، فتابعني في المرة القادمة؛ فلدي المزيد الذي أريد أن أقوله لكما.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ  ٥ أغسطس/ آب ٢٠١٢)

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved

 

 

 

 

 

 

 

 التربية المقدسة بالطول