بقلم: سامي يعقوب

  يتردد سؤال مؤلم في أحاديث أهالينا الذين قطفت حياة فلذات أكبادهم على غير توقع: "ماذا عن دفن جثامين أبنائنا؟" ولا يستطيع أحد أن يقلل من أهمية هذا التساؤل، أو يلوم مشاعر الألم المصاحبة له؛ خاصة وأن الكتاب المقدس يذكر في أكثر من موقع أن جسد الإنسان له كرامته عند الله حيًا كان أو ميتًا.

من أقسى المواقف التي يختبرها الواحد منا طيلة عمره هو أن يذهب بأجساد أحبائه ليستودعها في القبر.. ومهما كان عمرنا عندما نفعل هذا، وأيًا كان عمر الحبيب الذي غيبه الموت عنا، فهذا الاختبار لايزال له رهبته وتأثيره العميق على نفوسنا. فالموت بحسب قول الكتاب عدو، ولا يمكن أن يكون صديقًا مهما كانت الظروف المحيطة به. إلا أن مشاركتنا في دفن الأحباء بأيدينا ممارسة لها أبعادها النفسية الصحية علينا نحن الأحياء بالرغم من قسوتها.. فالدموع التي تنهمر غزيرة، ومساندة الأهل والأصدقاء، تفرغ كمًا هائلاً من مشاعر الأسى والحزن الكبيرة، لكنها تبدأ في أن تأخذ حجمها الطبيعي بمجرد أن يُعطي المودعون ظهورهم لباب القبر الذي أُغلق على أجساد موتاهم، وتدريجيًا يبدأ التوافق بين عدم التصديق والواقع الجديد. لكن الأمر يختلف عندما لا نتمكن لسبب أو آخر أن نودع أحباءنا إذا وافتهم المنية بعيدًا عنا، كما هو الحال مع شهدائنا. والسؤال الصعب هنا هو ماذا نفعل نحن الأحياء في مثل هذه الحالة؟ كما قد يتساءل البعض ما الموقف بالنسبة للمنتقل الذي لا يدفن جثمانه؟

أسئلة مثل هذه ليست جديدة.. ففي العصور الأولى للكنيسة كان المسيحيون يعتقدون بأهمية أن يُحفظ الجسد في القبر بأفضل حال، فكانوا يسكبون عليه الحنوط، ويغمرونه بالأعشاب العطرية بقصد حفظه من التحلل؛ بل وكان البعض، خاصة في مصر، يحنطون الأجساد، ويضعون في القبر معها الكثير من المستلزمات. كذلك كانوا يهتمون بوضع الجثمان بحيث يرقد ووجهه ينظر في اتجاه معين؛ ظنًا بأن هذا يجعله مستعدًا للتجاوب مع صوت البوق الأخير، فيقوم في الحال. وقد بُني هذا الاعتقاد بسبب الظن آنذاك أن الموتى سيقومون بنفس الأجساد التي كانوا عليها قبل الموت. لكن الآباء صححوا هذا الافتراض بالفهم الصحيح لما تقوله الكلمة المقدسة، وأكدوا أن قيامة المؤمن لا تعتمد بأي شكل من الأشكال على حفظ جسده المادي، أو بكيفية أو مكان الدفن. وهكذا أصبح التعامل مع حدث الموت من خلال أمرين: أولهما لا غنى عنه، وهو طقس صلاة الجناز بالكنيسة؛ وثانيهما هو استيداع الجثمان في القبر متى كان ذلك متاحًا.

    صلاة الجناز  تقليد تسلمته  الكنيسة من الرسل والآباء القديسين الأوائل، طلبًا لراحة النفس التي رقدت على رجاء القيامة. أما الدفن بما فيه من تكريم للمنتقل فيعتمد على العادات السائدة في المجتمع، وتختلف ممارسته من بيئة لأخرى محليًا أو عالميًا. الطقس الكنسي يركز على نياحة النفس، ويرفع الأعين للسماء؛ أما مراسيم الدفن ففي مجملها تركز على التراب، وتأخذ البصر إلى أسفل حيث القبر. ولعلنا اليوم عندما يتعسر رجوع جثامين شهدائنا لندفنهم بأنفسنا نجد تعزية في أن نسمع مجددًا صلوات الكنيسة وهي تزف أنفس المنتقلين إلى السماء: ”هذه النفس التي اجتمعنا بسببها، يا رب نيحها في ملكوت السموات، افتح لها يارب أبواب السماء، واقبلها إليك كعظيم رحمتك. افتح لها يارب أبواب البر، لكي تدخل وتتنعم هناك. افتح لها يارب أبواب الراحة، لترتل مع الملائكة. ولتُدخلها ملائكة النور إلى الحياة. وبرحمتك عزّ كل الذين خلَّفتهم، وأهل بيتها ألهمهم صبرًا وعوّضهم أجرًا صالحًا سمائيًا.“

    أحد أهم النصوص المقدسة التي تُلقي بالضوء على هذا الأمر هو ما كتبه الرسول بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس أصحاح ١٥؛ فقد بدأ بالسؤال: «كيف يقوم الأموات وفي أي جسم يعودون؟» (عدد ٣٥) ثم أجاب في الأعداد التالية: «هذه هي الحال في قيامة الأموات: يدفن الجسم مائتًا ويقوم خالدًا. يُدفن بلا كرامة ويقوم بمجد. يُدفن جسمًا بشريًا ويقوم جسمًا روحانيًا…. أقول لكم أيها الأخوة، إن اللحم والدم لا يمكنهما أن يرثا ملكوت الله، ولا يمكن للموت أن يرث الخلود. واسمعوا هذا السر: لا نموت كُلنا، بل نتغير كُلنا، في لحظة وطرفة عين عند صوت البوق الأخير، لأن صوت البوق سيرتفع فيقوم الأموات لابسين الخلود ونحن نتغير. فلابد لهذا المائت أن يلبس ما لا يفنى. ومتى لبس هذا المائت ما لا يموت، ولبس هذا الفاني ما لا يفنى، تم قول الكتاب: الموت ابتلعه النصر. فأين نصرك يا موت؟ وأين يا موت شوكتك؟» (أجزاء من النص بحسب ما جاء في الترجمة العربية المشتركة).

    من وجهة النظر الكتابية والروحية هناك معجزة لا يمكن شرحها تحدث عند القيامة تميز بين الجسد الذي نموت به والجسد الذي نقوم به في مجد. ومن أجل هذا فالكنيسة لا يوجد لديها أدنى شك أو خوف فيما يتعلق بالمصير الأبدي لشهدائها عبر التاريخ.. الذين رجموا، وتقطعت أوصالهم، وأُنيرت الطرق بأجسادهم المشتعلة، والذين أُلقوا أحياء لتأكلهم الحيوانات المفترسة.. ولم يتمكن أحد من دفنهم إذ لم توجد جثامينهم. كما تعلمنا الكنيسة أن المجد الذي ستكون عليه أجسادنا المقامة لا علاقة له على الإطلاق بطريقة أو مكان دفن الأجساد. الذي يصنع الفرق حقيقة هو علاقتنا الشخصية مع الله الذي له وحده عدم الموت، بواسطة الإيمان بابنه يسوع المسيح. يقول القديس يوحنا الرسول: «وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة» (١ يوحنا ٥ : ١١ و١٢). عندما يموت المؤمن يعود جسده الأرضي (اللحم والدم) إلى التراب؛ أما الروح، التي هي نسمة الحياة الإلهية، فتنطلق إلى السماء.

أيها الأحباء.. حتى ولو صدقت الرواية التي تقول إن شهداءنا قد ألقيت جثامينهم في البحر، لنسمع صوت الروح القدس يقول: «ورأيت الأموات صغارًا وكبارًا واقفين أمام الله، وانفتحت أسفار، وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة، ودين الأموات مما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم.. "وسلم البحر الأموات الذين فيه"، وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما» (رؤيا ٢٠ : ١٢ و١٣). إذن لا يهم الدفن بحرًا أو قبرًا، لأن أبناء الله سيقومون في المسيح. لنفتح قلوبنا لسلام الله فيحفظ قلوبنا وأفكارنا، ولنجتهد ألا نقاوم عمل الروح القدس الساكن فينا، بل نتيح أنفسنا له ليعزينا.. فليس مهمًا أين نموت، أو كيف ندفن؛ الأهم لمن نموت ولمن نقوم من الأموات.. ولنا مثال في ذلك شهداؤنا الأبطال.


(نُشر بجريدة وطني بتاريخ ٢٢ فبراير/ شُباط ٢٠١٥)

Copyright © 2015 Focus on the Family Middle East. All rights reserved