بقلم: سامي يعقوب

للمزيد من هذه السلسلة:

عائلاتنا والأزمة ١          عائلاتنا والأزمة ٢          عائلاتنا والأزمة ٣      

عائلاتنا والأزمة ٤          عائلاتنا والأزمة ٥


الأزمات لها قوة تغيير، ولطالما استخدم الله الأزمات والضيق ليُحدث في حياة الأفراد والجماعات التغيير الذي يريد أن يراه فيهم. ومن تاريخ الكنيسة الأولى الذي نقرأه في سفر أعمال الرسل، وأيضًا من كتابات الآباء نعرف أن الضيق أيًا كان نوعه كان دائمًا مصدرًا لبركة المؤمنين، ونمو الكنيسة، بل وانتشار رسالة الإنجيل

ولأننا لا نستطيع أن نستوعب الحاضر في غياب خبرات التاريخ، فإن هذا يشجعني على الجزم بأن ما قد تحمله لنا الأيام القادمة يعطينا نعمة وامتيازًا أن نشترك في كأس آلام المسيح .

ومادام الضيق جزءًا جوهريًا في حياة الإيمان المسيحي، فلابد أن ننتهز الفرصة كآباء وأمهات لنعد أبناءنا بالمعرفة والدعم الروحي والمعنوي، ليس فقط ليثبتوا على إيمان الآباء، بل لكي نطور فيهم روح الشجاعة والحكمة لتستمر شهادتهم للمسيح بدون تردد في مواجهة الضغوط التي تشكك فيما يؤمنون به.

المعرفة قوة، وبدونها، بحسب قول الكتاب المقدس، «يهلك الشعب». والمعرفة المطلوبة اليوم هي تلك التي تمكّن الشخص من التفكير فيما يؤمن به، فيستطيع أن يشارك بمحبة وحكمة بما هو موقن بصحته، والنابع ليس فقط عن اقتناع عقلي بل وعن اختبار حياتي. فمشاركة الآخرين بحقائق إيمانية محفوظة يقود للجدل، الذي بدوره قد يخلق عداوة، ويجرح المشاعر فتزداد الكراهية. هنا نحتاج كعائلات أن نقرر معًا ما الذي نريد أن نعرف عنه أكثر من حقائق الإيمان المسيحي، ومن أي مصدر سنزيد هذه المعرفة المؤيدة بالبراهين الثابتة. ولنركز في حواراتنا مع الأبناء على كيفية الربط بين المعرفة والحياة اليومية، وما نواجهه من تحديات في المواقع المختلفة التي نتواجد فيها. إن أكثر ما يشغلني اليوم هو تعليم أبنائي كيف لا يهربون من مواجهة سؤال يختبرهم، وألا يتجنبوا مناقشة يشعرون فيها بحرج أن يشاركوا بما يؤمنون به بوضوح، وبدون مساومة يقصد بها مجاملة الآخر.. والمقياس الذي لابد أن نضعه نصب أعيننا دائمًا هو كيف نعلن إيماننا بالمسيح لمن هم حولنا بأسلوب المسيح.

في غير أوقات الأزمات يحارب الشيطان المؤمنين بأن يشغلهم بكل ما هو أرضي؛ فيحبون العالم الحاضر بما فيه، وبهذا يُلهيهم عن الشهادة للمسيح سواء بحياتهم أو بكلامهم. لكنه بخبث يغير أسلحته طبقًا للظروف التي نجتازها.. ولعل أخطر ما يستخدمه في مثل ظروفنا الحالية هو دفعنا للمساومة على إيماننا في مقابل الاحتفاظ بما لدينا من ممتلكات مادية أو معنوية، وبهذا يصبح إيماننا لا يساوي شيئًا!  وأنا لا أعتقد أن ضغوط المرحلة المقبلة التي يمكن أن نواجهها كبارًا أو صغارًا ستكون: "إذا تمسكت بمسيحيتك ستُقطع رأسك، أو ستلقى في إناء به زيت يغلي!" أغلب الظن التهديد القادم سيرتبط بإمكانية الحصول على نجاح دراسي مستحق، أو الاستمرار في وظيفة ما، أوالقبول من الآخرين بشكل أفضل، هذا بالإضافة إلى نتائج ما قد يسود مجتمعاتنا من اتهام باطل بالكفر، وممارسة الاحتقار والمهانة المتعمدين بقصد زعزعة إيمان الضعفاء. إنها ساعة لنستيقظ، ونعيد ترتيب أولويات الجهد الذي نبذله لنوفر لأبنائنا ما يضمن لهم مستقبلاً أفضل يستمد قيمته من معرفتهم لمن يجب أن أعيش لا كيف أعيش.

ومن أروع ما تصنعه الأزمات في حياتنا هو أنها تجعلنا نكتشف المقدرات الخاصة التي وضعها الله في كل واحد منا، والتي لم نكن نستطيع تخيلها. فقد تبدو الأزمة مثل الكابوس المرعب الذي لا ينتهي، لكن الله الذي يصنع المعجزات يفجر فينا بنعمته طاقة جديدة وفريدة تغير من أسلوب تفكيرنا جذريًا، وتجعلنا نرى الحياة بأكملها من منظور جديد.. وهذا يعمق تقديرنا لعطية الحياة، ويوقظ في داخلنا الإحساس بالضرورة لننتهز فرصة كل يوم نعيشه لنشهد عن محبة الله للجميع.

الأزمة ذكرتني أن الحياة عطية يومية، أو لنقل أنها عطية تمنح لحظية.. أعترف بأنني لا أشعر بالبطولة إذا جال بخاطري أنه ربما سيصبح الاستشهاد من أجل المسيح ضرورة في جيلي هذا! إلا أن الأزمة بقوتها على التغيير أخذتني إلى بعد جعلني أفكر من جديد في تكلفة تبعية المسيح. وأنا لا أقصد أننا يجب أن نسعى للاستشهاد، لكني أريد بجرأة أن أشجع كل أسرة أن تعطي للحوار حول هذا الأمر مكانًا يجعلنا على استعداد ألا نهرب منه إذا واجهنا الاختيار بينه وبين أن ننكر المسيح.  لنقرأ مع أبنائنا ما تحكيه كلمة الله عن أبطال الإيمان الذين عُذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل، والذين تجربوا في هزء (أي عانوا محاكمات ظالمة)، وجلد، ثم في قيود أيضًا وحبس.. ولنذكر أن كل هؤلاء لم يكن العالم مستحقًا لهم، لكن كان مشهودًا لهم بالإيمان. مثل هذا الحديث لن يخيف أبناءنا أبدًا، بل على العكس سيرفعهم روحيًا، ويدعمهم معنويًا بلا حدود.

في الأيام الماضية ذكرني الواعظ بكنيستي بقصة استشهاد القديس بوليكاربس، تلميذ الرسول يوحنا وأسقف كنيسة سميرنا. وعندما عدت إليها مجددا وجدت في شهادة اللحظات الأخيرة في حياة هذا الشيخ ما يمكن أن أستمد منه شجاعتي مع أسرتي في مواجهة ما قد تحمله لنا الأيام القادمة. لقد ظن المضطهدون في تلك الأيام  أن التخلص من قائد الكنيسة سيضعف من شهادتها، وربما يقضي على وجودها.. فأرسلوا مجموعة من الرجال ليقبضوا على بوليكاربس. أما هو فقد رحب بهم وأكرمهم وكأنهم أصدقاء قدامى له، ثم طلب منهم ساعة ليصلي قبل أن يسوقوه إلى ساحة الإعدام، وامتدت الساعة إلى ساعتين.. وبينما كان أولئك الرجال يستمعون لكلمات صلاته نخسوا في قلوبهم، وتساءلوا فيما بينهم لماذا يأخذون إلى الموت شخصًا يصلي لإلهه بمثل ما كان يقوله القديس في صلاته!

وأمام الجموع التي جاءت لترى ما سيحدث مع الشيخ بوليكاربس وقف هو هادئًا وواثقًا بمن آمن به، وبدلا من أن يترجى قاتليه أن يعفوا عنه، كانوا هم يترجونه أن ينكر المسيح لكي ينجو من الموت! أما هو فأجابهم بقولته الخالدة: " لقد عشت معه أعبده وأخدمه لمدة ستة وثمانين عامًا، ولم يُسىء إليّ مرة واحدة.. فكيف لي أن أنكر مليكي ومخلصي الآن!" ويحكي التقليد عن الذين عاصروا استشهاد هذا القديس أن وجهه كان يشع بالفرح والبهجة قبل أن يُلقى به حيًا ليحرق في النار!

فلنتكل على نعمة الله مع كل يوم جديد وكأننا لم نفعل هذا من قبل، ولنعزم اتكالاً على هذه النعمة فقط ألا ننكر المسيح حتى لو كلفنا الأمر حياتنا.. فإن سمح وعشنا فلنعش له، وإن أعطانا أن نموت فلنمت إذن له؛ لأننا إن عشنا أو متنا فله نحن.


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٣ نوفمبر/تشرين الثاني ٢٠١١)

Copyright © 2011 Focus on the Family Middle East. All rights reserved