بقلم: سامي يعقوب

من أسبوعين دُعيت للحديث في حلقة دراسية مع مجموعة من عائلات إيبراشية أحد مراكز وسط الصعيد. في الطريق إلى هناك كنت مشغولاً بما يمكنني أن أشجع به مَنْ سألتقي معهم، وكنت أظنهم يعانون قلقًا يماثل ما يشعر به كثير من القاهريين بسبب ضغوط المعيشة الناتجة عن ارتفاع الأسعار، وزحام الشوارع، ومعاناة الحصول على بعض الضروريات من خبز ووقود، وانقطاع الكهرباء... إلخ.، وفوق كل ذلك مخاوف غياب رؤية واضحة لهُوية ومستقبل الوطن! لكني فوجئت عند وصولي إلى حيث عُقد اللقاء بالروح السائدة بين الناس هناك، والتي فاضت بنوع نادر من السلام الذي أشعر أننا قد افتقدناه مع تواتر أخبار ما يتمخض به الوطن؛ فيزعجنا كمصريين قبل أن يُخيفنا كأقباط.

 الحوار مع المجموعة، والنقاش جانبًا مع الأفراد لم يخرج عن الرغبة الجارفة لآباء وأمهات في أن يروا أبناء مؤهلين لمستقبل أفضل، لا يذهب بهم بعيدًا عن بلادهم، بل يجعلهم مثمرين وناجحين يصنعون فرقًا حيثما زرعهم الله! أين المفاجأة في هذا؟ لقد ظننت في البداية أن هذا السلام البادي على الوجوه ربما يكون نتيجة لعدم متابعة ما يجري من أحداث.. على سبيل المثال ما نسمعه من أخبار عن كتابة الدستور الجديد بتوجه معين قد يقود البلاد لحالة "لا تسر عدو ولا حبيب". المفاجأة هنا أنني كنت مخطئًا تمامًا فيما ظننته؛ فأحاديثنا معًا أظهرت أنهم على علم بكل التحديات التي يواجهها أبناء الوطن عامة، والأقباط خاصة! لكن معرفتهم هذه، والتي قد تفوق ما يعرفه أهل العاصمة فيقلقهم، لم تنزع عنهم سلامهم، ولم تجعلهم متلهفين على خيار الهجرة، أو السعي لقبول عرض باللجوء المُذل لدولة أوروبية يجهلون عواقبه! لم يتعرض حوارنا عن أين يمكن أن يعيش الأبناء في المستقبل، بل كان كل التركيز حول كيف يعيشون، ولمَنْ يعيشون!

 ولم تتوقف المفاجآت حتى آخر لحظة؛ فعندما وقفنا لنصلي معًا في الختام سمعت أعجب كلمات لصلاة خرجت من قلب يفيض بنعمة الإيمان: "يارب.. ليتك تختار لكنيستك بطريركًا بحسب قلبك!" وهذه طلبة مفهومة ومتوقعة.. لكن ما أدهشني بقية التضرع: "يارب ليتك تبارك الدكتور مرسي رئيس البلاد!" لم أصدق ما كنت أسمعه.. "يارب بارك مَنْ؟!" شعب الكنيسة القبطي يطلب من الله أن يبارك الرئيس الذي يستقوي عليه كثيرون بالنقد اللاذع عن حق أو غير حق. ومع أنني ممَنْ صوتوا لصالح الدولة المدنية في الانتخابات الرئاسية، إلا أن كلمات تلك الصلاة هزتني من الأعماق؛ فقد ذكَّرتني بالوصية الإلهية أن نصلي من أجل كل الذين هم في منصب، ليس فقط لأجل مَنْ أعطيناه صوتنا! وعدت إلى بيتي بسؤال يتردد في داخلي: "من أين لهؤلاء الناس هذا النوع العجيب من السلام؟" لابد أنه السلام الذي أخبر عنه بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبي: "لا تهتموا بشيء، بل في كل شيء بالصلاة والدُعاء مع الشكر؛ لتُعلم طلباتكم لدى الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ (يحرس) قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع." (فيلبي ٤: ٦ و٧).

 

تُرى هل التمتع بالسلام يتحقق بهذه السهولة: صلاة + شكر = سلام؟ وما على الواحد منا سوى أن يتبع هذه الخطوات فيتغلب تلقائيًا على قلقه؟ كم من مرة شعرت بالقلق واجتهدت أن أحصل على السلام بالصلاة، لكن بينما كنت أُصلي لم يتوقف عقلي عن التفكير فيما يُقلقني.. فألجأ إلى الشكر. وبالرغم من طول قائمة ما أشكر لأجله، لم تنجح هذه المحاولة أيضًا في إزالة شعوري بالاضطراب؛ فأعود للسؤال: "من أين لي بالسلام الذي يفوق إدراكي، ويجدد شجاعتي، ويهدئ أفكاري، ويقويني لأصدق بالإيمان ما لا أراه بالعيان؟"

ومرة أخرى رجعت إلى نص ما جاء في فيلبي٤: ٦ و٧، وخجلت إذ اكتشفت أنني اعتدت التعامل مع هذا النص وكأنه "روشتة" طبية أذهب بها إلى "الأجزخانجي الإلهي" ليصرف لي ما يُزيل قلقي، ويهدئ من روعي! ولأول مرة أدركت أن الحديث هنا عن علاقة مع "رئيس السلام" تقودنا لاختبار سلامه الذي يتخطى كل تصور بشري، وأن الوعد يُصبح بلا فعالية إذا اختصرناه ليكون مجرد عريضة مطالبة، نحاجج بها الله ليعطينا ما نُريد وكأننا أصحاب حق عليه! إن حديث الرسول هنا عن علاقة وليس عن أسلوب مطالبة، فنصيحته "لا تهتموا" قد جاءت بعد تصريحه في العدد الخامس: "الرب قريب!" هذا ما يُغير الاتجاه ليصبح التركيز لا على الكيفية التي نصلي بها، بل على شخص مَنْ نأتي إلى عرش نعمته عندما يهزمنا القلق.. فإذا كنت اليوم تجتاز ضيقًا، أو تشعر باضطراب عدم يقينية المستقبل، أؤكد لك أن الذي يصنع الفرق هو معية الله، وليس ما تظنه حلاً لمشاكلك، أو تتمناه بفكرك البشري كمخرج من أزمتك.. إن اسمه "عمانوئيل.. الله معنا!" وهو وحده الطريق إلى الراحة والسلام.

إن السلام والرجاء لا يتحققان في الحياة بدون تواضع! وليس هناك سلاح أفضل من التواضع لنحارب به القلق؛ لأنه ببساطة يعني قبولنا لحقيقة أننا غير مسيطرين على الأمور التي تُثير قلقنا. عندما نشعر بأنه من المستحيل أن نتحكم في كل ما يبدو مستحيلاً في المستقبل، نحتاج أن نتوقف لنفحص أنفسنا ما إذا كان قلقنا نابعًا من رغبتنا أن نحمي ممتلكاتنا، أو إنجازاتنا؛ أو أن اضطرابنا يحركه مخاوف تتعلق بحماية مستقبل أبنائنا.. مثل هذه الدوافع تجعلنا نفسر كلمة الله لتناسب ما نراه الأفضل لنا، بدلاً من أن نخضع لمواعيد الله، ونصدق أن عمل قوته الذي كان في حياة آبائنا لن يتوقف في أيامنا، وسيستمر مع أبنائنا.

 

العلاقة بين التواضع والقلق نجدها واضحة في الحق الكتابي المعلن في رسالة الرسول بطرس: "تواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه، ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم." (١بطرس ٥: ٦ و٧).. التواضع المذكور هنا يعني أن نستبدل قلقنا بالثقة في شخص الله وحده. إن المزيد من الاطلاع على الأمور، والتحقق من صحة ما نسمعه من أخبار لا يجلبان السلام للنفس؛ أما التواضع أمام الله، بتسليم أمور حياتنا ومستقبلنا له مع كل صباح جديد، فيمتعنا بامتياز أن يهتم هو بنا اليوم، وغدًا، وكل يوم.. السلام الداخلي في النفس لا يتحقق باتباع خطوات لوصفة ما، لكنه يفيض داخلنا من خلال علاقة حية مع إله قريب منك ومني.. وليملك في قلوبنا سلام الله حتى نلتقي في المرة القادمة.


 (نُشر بجريدة وطني بتاريخ ١٤ أكتوبر/  تشرين الأول ٢٠١٢) 

Copyright © 2012 Focus on the Family Middle East. All rights reserved